فصل: قول القائل‏:‏ (‏أسألك بكذا‏ ) نوعان‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فقد تبين أن قول القائل‏:‏ ‏[‏أسألك بكذا‏]‏ نوعان‏:‏ فإن الباء قد تكون / للقسم، وقد تكون للسبب، فقد تكون قسما به على الله، وقد تكون سؤالاً بسببه ‏.‏

فأما الأول‏:‏ فالقسم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف على الخالق ‏؟‏

وأما الثانى ـ وهو السؤال بالمعظم ـ‏:‏ كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع، وقد تقدم عن أبى حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز ذلك‏.‏ومن الناس من يجوز ذلك، فنقول‏:‏ قول السائل لله تعالى‏:‏ ‏[‏أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، أو بجاه فلان أو بحرمة فلان‏]‏ يقتضى أن هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح ‏.‏

فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة يقتضى أن يرفع الله درجاتهم ويعظم أقدارهم ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا، مع أنه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏‏[‏ البقرة‏:‏ 255 ‏]‏ ‏.‏

ويقتضى أيضاً أن من اتبعهم واقتدى بهم فيما سن له الاقتداء بهم فيه، كان سعيداً، ومن أطاع أمرهم الذى بلغوه عن الله كان سعيداً، ولكن ليس نفس مجرد قدرهم وجاههم مما يقتضى إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك، بل جاههم ينفعه أيضاً إذا اتبعهم وأطاعهم فيما أمروا به عن الله، أو تأسى بهم فيما سنوه للمؤمنين، وينفعه أيضاً إذا دعوا له وشفعوا فيه ‏.‏

فأما إذا لم يكن منهم دعاء ولا شفاعة، ولا منه سبب يقتضى الإجابة، لم يكن متشفعاً بجاههم، ولم يكن سؤاله بجاههم نافعاً له عند الله، بل يكون قد سأل/ بأمر أجنبى عنه ليس سبباً لنفعه، ولو قال الرجل لمطاع كبير‏:‏ أسألك بطاعة فلان لك، وبحبك له على طاعتك، وبجاهه عندك الذى أوجبته طاعته لك، لكان قد سأله بأمر أجنبى لا تعلق له به، فكذلك إحسان الله إلى هؤلاء المقربين ومحبته لهم وتعظيمه لأقدارهم مع عبادتهم له وطاعتهم إياه ليس فى ذلك ما يوجب إجابة دعاء من يسأل بهم، وإنما يوجب إجابة دعائه بسبب منه لطاعته لهم، أو سبب منهم لشفاعتهم له، فإذا انتفى هذا وهذا فلا سبب‏.‏

نعم، لو سأل الله بإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحبته له وطاعته له واتباعه، لكان قد سأله بسبب عظيم يقتضى إجابة الدعاء، بل هذا أعظم الأسباب والوسائل، والنبى صلى الله عليه وسلم بين أن شفاعته فى الآخرة تنفع أهل التوحيد لا أهل الشرك، وهى مستحقة لمن دعا له بالوسيلة كما فى الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا هو ذلك العبد، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏، وفى الصحيح أن أبا هريرة قال له‏:‏ أى الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه‏)‏‏.‏

فبين صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بشفاعته يوم القيامة من كان أعظم توحيداً وإخلاصاً؛ لأن التوحيد جماع الدين، والله لا يغفرأن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فهو سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإذا شفع محمدا صلى الله عليه وسلم حدَّ له ربه حدا فيدخلهم الجنة، وذلك بحسب / ما يقوم بقلوبهم من التوحيد والإيمان‏.‏ وذكر صلى الله عليه وسلم أنه من سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة، فبين أن شفاعته تنال باتباعه بما جاء به من التوحيد والإيمان‏.‏ وبالدعاء الذى سن لنا أن ندعو له به ‏.‏

 وأما السؤال بحق فلان فهو مبنى على أصلين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما له من الحق عند الله‏.‏والثانى‏:‏ هل نسأل الله بذلك كما نسأل بالجاه والحرمة‏؟‏

أما الأول فمن الناس من يقول‏:‏ للمخلوق على الخالق حق يعلم بالعقل، وقاس المخلوق على الخالق، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم‏.‏ومن الناس من يقول‏:‏ لا حق للمخلوق على الخالق بحال، لكن يعلم ما يفعله بحكم وعده وخبره، كما يقول ذلك من يقوله من أتباع جهم والأشعرى وغيرهما، ممن ينتسب إلى السنة ‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ بل كتب الله على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه حقاً لعباده المؤمنين كما حرم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته وحكمته وعدله كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، كما قال فى الحديث الصحيح الإلهى‏:‏ ‏(‏يا عبادى، إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا‏)‏‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏‏[‏ الأنعام‏:‏ 54 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏[‏الروم‏:‏ 47 ‏]‏ وفى الصحيحين عن معاذ، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يا معاذ، أتدرى ما حق الله على / عباده ‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏قال‏:‏ ‏(‏حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً‏.‏يا معاذ، أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ‏؟‏‏)‏ قلت الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏حقهم عليه ألا يعذبهم‏)‏‏.‏ فعلى هذا القول لأنبيائه وعباده الصالحين عليه سبحانه حق أوجبه على نفسه مع إخباره، وعلى الثانى يستحقون ما أخبر بوقوعه، وإن لم يكن ثَمَّ سبب يقتضيه‏.‏

فمن قال‏:‏ ليس للمخلوق على الخالق حق يسأل به ـ كما روى أن الله تعالى قال لداود‏:‏ ‏(‏وأى حق لآبائك علىّ ‏؟‏‏)‏ ـ فهو صحيح إذا أريد بذلك أنه ليس للمخلوق عليه حق بالقياس والاعتبار على خلقه كما يجب للمخلوق على المخلوق، وهذا كما يظنه جهال العباد من أن لهم على الله سبحانه حقاً بعبادتهم ‏.‏

وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم وملاكهم، فيجلبون لهم منفعة، ويدفعون عنهم مضرة ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه‏:‏ ألم يفعل كذا ‏؟‏ يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقله بلسانه كان ذلك فى نفسه ‏.‏

وتخيل مثل هذا فى حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه، ولهذا بيّن سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه، وأن الله غنى عن الخلق، كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏‏[‏ الإسراء‏:‏ 7 ‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏‏[‏ فصلت‏:‏ 46 ‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ‏}‏‏[‏ النمل‏:‏ 40 ‏]‏، وقال تعالى فى قصة موسى ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏‏[‏ إبراهيم‏:‏ 7، 8 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً‏}‏‏[‏ آل عمران‏:‏ 176 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏ آل عمران‏:‏ 97 ‏]‏ ‏.‏

وقد بين ـ سبحانه ـ أنه المانُّ بالعمل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏[‏ الحجرات‏:‏ 17 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏[‏ الحجرات‏:‏ 7، 8 ‏]‏ ‏.‏

وفى الحديث الصحيح الإلهى‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‏.‏ يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً ولا أبالي، فاستغفرونى أغفر لكم‏.‏يا عبادى، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا‏.‏يا عبادى، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئاً‏.‏يا عبادى، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان منهم / مسألته ما نقص ذلكم مما عندى إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر‏)‏‏.‏

وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة ‏.‏

منها‏:‏ أن الرب تعالى غنى بنفسه عما سواه، ويمتنع أن يكون مفتقراً إلى غيره بوجه من الوجوه‏.‏والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية ‏.‏

ومنها‏:‏ أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التّائبين فهو الذى يخلق ذلك وييسره فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته‏.‏وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان بخلاف القدرية‏.‏والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره ‏.‏

ومنها‏:‏ أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم ، كما قال قتادة‏:‏ إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلا عليهم، بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم‏.‏بخلاف المخلوق الذى يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلا عليه‏.‏وهذا أيضا ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته، ويقولون‏:‏ إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم، ولم ينههم إلا عن شر يضرهم، بخلاف المجبرة الذين يقولون‏:‏ إنه قد يأمرهم بما يضرهم وينهاهم عما ينفعهم‏.‏

ومنها‏:‏ أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو المنعم بالقدرة والحواس وغير ذلك مما به يحصل العلم والعمل الصالح، وهو الهادى لعباده، فلا حول ولا قوة إلا به؛ ولهذا قال أهل الجنة‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏‏[‏ الأعراف‏:‏ 43 ‏]‏ وليس يقدر المخلوق على شىء من ذلك ‏.‏

ومنها‏:‏ أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم لم تقم العبادة بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمته أيضاً ‏؟‏

ومنها أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج إلى مغفرة الله لها ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ‏}‏‏[‏ فاطر‏:‏ 45 ‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله‏)‏، لا يناقض قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏[‏ الأحقاف‏:‏ 14، الواقعة‏:‏ 24 ‏]‏ ‏.‏

فإن المنفى نفى بباء المقابلة والمعاوضة، كما يقال‏:‏ بعت هذا بهذا، وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سببا للجزاء؛ ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه، فهو ضال، كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لن يدخل أحد الجنة بعمله‏)‏، قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل‏)‏ وروى ‏(‏بمغفرته‏)‏، ومن هذا أيضاً‏:‏ الحديث الذى فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم‏)‏ الحديث‏.‏

ومن قال‏:‏ بل للمخلوق على الله حق، فهو صحيح إذا أراد به الحق الذى أخبر / الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذى أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته، وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التى علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب، وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبى عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه ‏.‏

 وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التى تقتضى ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر، فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به‏.‏ فقول المنازع‏:‏ لا يسأل بحق الأنبياء، فإنه لا حق للمخلوق على الخالق‏:‏ ممنوع فإنه قد ثبت فى الصحيحين حديث معاذ الذى تقدم إيراده، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏‏[‏ الأنعام‏:‏54‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏‏.‏

فيقال للمنازع‏:‏ فى هذا فى مقامين‏:‏

أحدهما‏:‏ فى حق العباد على الله، والثانى‏:‏ فى سؤاله بذلك الحق ‏.‏

أما الأول‏:‏ فلا ريب أن الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذى لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 122 ‏]‏، ‏{‏وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏‏[‏ الروم‏:‏ 6 ‏]‏، ‏{‏فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ‏}‏‏[‏ إبراهيم‏:‏ 47 ‏]‏، فهذا مما يجب وقوعه /بحكم الوعد باتفاق المسلمين‏.‏وتنازعوا‏:‏ هل عليه واجب بدون ذلك ‏؟‏ على ثلاثة أقوال، كما تقدم ‏.‏

قيل‏:‏ لا يجب لأحد عليه حق بدون ذلك ‏.‏

وقيل‏:‏ بل يجب عليه واجبات ويحرم عليه محرمات بالقياس على عباده ‏.‏

وقيل‏:‏ هو أوجب على نفسه وحرم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه، كما ثبت فى الصحيح من حديث أبى ذر، كما تقدم ‏.‏

والظلم ممتنع منه باتفاق المسلمين، لكن تنازعوا فى الظلم الذى لا يقع، فقيل‏:‏ هو الممتنع وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً؛ لأن الظلم إما التصرف فى ملك الغير، وإما مخالفة الأمر الذى يجب عليه طاعته، وكلاهما ممتنع منه ‏.‏

وقيل‏:‏ بل ما كان ظلماً من العباد فهو ظلم منه ‏.‏

وقيل الظلم وضع الشىء فى غير موضعه، فهو سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏}‏‏[‏ طه‏:‏ 112 ‏]‏‏.‏قال المفسرون‏:‏ هو أن يحمل عليه سيئات غيره ويعاقب بغير ذنبه، والهضم أن يهضم من حسناته، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏[‏ النساء‏:‏ 40 ‏]‏، ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏‏[‏ هود‏:‏ 101 ‏]‏ ‏.‏

وأما المقام الثانى‏:‏ فإنه يقال‏:‏ ما بين الله ورسوله أنه حق للعباد على الله فهو /حق، لكن الكلام فى السؤال بذلك، فيقال‏:‏ إن كان الحق الذى سأل به سبباً لإجابة السؤال حسن السؤال به، كالحق الذى يجب لعابديه وسائليه ‏.‏

وأما إذا قال السائل‏:‏ بحق فلان وفلان، فأولئك إذا كان لهم عند الله حق ألا يعذبهم وأن يكرمهم بثوابه ويرفع درجاتهم ـ كما وعدهم بذلك وأوجبه على نفسه ـ فليس فى استحقاق أولئك ما استحقوه من كرامة الله ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن ذلك استحق ما استحقه بما يسره الله له من الإيمان والطاعة‏.‏وهذا لا يستحق ما استحقه ذلك‏.‏فليس فى إكرام الله لذلك سبب يقتضى إجابة هذا ‏.‏

وإن قال‏:‏ السبب هو شفاعته ودعاؤه فهذا حق، إذا كان قد شفع له ودعا له، وإن لم يشفع له ولم يدع له لم يكن هناك سبب ‏.‏

وإن قال‏:‏ السبب هو محبتى له وإيمانى به وموالاتى له، فهذا سبب شرعى، وهو سؤال الله وتوسل إليه بإيمان هذا السائل ومحبته لله ورسوله، وطاعته لله ورسوله، لكن يجب الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله‏:‏ فمن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً لله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه، وأما من كان الله تعالى أحب إليه مما سواه، وأحب أنبياءه وعباده الصالحين له، فحبه لله تعالى هو أنفع الأشياء، والفرق بين هذين من أعظم الأمور ‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين ـ تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته، وهذا أعظم الوسائل، وتارة يتوسل بذلك / فى الدعاء كما ذكرتم نظائره ـ فيحمل قول القائل‏:‏ أسألك بنبيك محمد، على أنه أراد‏:‏ إنى أسألك بإيمانى به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيمانى به ومحبته، ونحو ذلك، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع‏.‏ قيل‏:‏ من أراد هذا المعنى فهو مصيب فى ذلك بلا نزاع، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف ـ كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره ـ كان هذا حسنا، وحينئذ فلا يكون فى المسألة نزاع‏.‏ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر‏.‏

وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا جائز بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس فى زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد يقول الرجل بغيره‏:‏ بحق الرحم، قيل‏:‏ الرحم توجب على صاحبها حقا لذى الرحم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الرحم شَجْنَةٌ ‏[‏شَجْنَة‏:‏ أى قرابة مُشْتبِكة كاشتباك العروق‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2/447‏]‏، من الرحمن، من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وقال‏:‏ ‏(‏لما خلق الله الرحم تعلقت بِحَقْوِ الرحمن وقالت‏:‏ هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال‏:‏ ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ‏؟‏ قالت‏:‏ بلى قد رضيت‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته‏)‏‏.‏

/وقد روى عن علىٍّ أنه كان إذا سأله ابن أخيه بحق جعفر أبيه، أعطاه لحق جعفر على عليَّ‏.‏ وحق ذى الرحم باق بعد موته، كما فى الحديث‏:‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، هل بقى من بر أبوى شىء أبرهما به بعد موتهما ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التى لا رحم لك إلا من قبلهما‏)‏، وفى الحديث الآخر ـ حديث ابن عمر ـ‏:‏ ‏(‏من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى‏)‏‏.‏ فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره ‏.‏

والذى قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء ـ من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق‏:‏ لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك ـ يتضمن شيئين ـ كما تقدم ـ ‏:‏

أحدهما‏:‏ الإقسام على الله ـ سبحانه وتعالى ـ به، وهذا منهى عنه عند جماهير العلماء كما تقدم، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء ‏.‏

والثانى‏:‏ السؤال به، فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل فى ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود فى دعاء كثير من الناس، لكن ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك كله ضعيف بل موضوع‏.‏وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذى علمه أن يقول‏:‏ ‏[‏أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة‏]‏، وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح فى أنه إنما توسل بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو / طلب من النبى صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ ‏(‏اللهم شفعه فى‏)‏‏.‏ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبى صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يعد من آيات النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ولو توسل غيره من العميان، الذين لم يدع لهم النبى صلى الله عليه وسلم بالسؤال به، لم تكن حالهم كحاله‏.‏

ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فى الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار، وقوله‏:‏ ‏(‏اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا‏)‏‏:‏ يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته؛ إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر والمهاجرين والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس ‏.‏

وشاع النزاع فى السؤال بالأنبياء والصالحين، دون الإقسام بهم؛ لأن بين السؤال والإقسام فرقاً، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه، فإبرار القسم خاص ببعض العباد‏.‏

وأما إجابة السائلين فعام؛ فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً، وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، / وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، إذاً نكثر‏.‏قال‏:‏ ‏(‏الله أكثر‏)‏‏.‏وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم ـ وهو الذى قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز ـ ليس فى المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلا أن يجعل هذا من مسائل السب، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوَّز التوسل به، بمعنى الإقسام به أو السؤال به، فليس معه فى ذلك نقل عن مالك وأصحابه، فضلا عن أن يقول مالك‏:‏ إن هذا سب للرسول أو تنقص له، بل المعروف عن مالك أنه كره للداعى أن يقول‏:‏ يا سيدى، سيدى، وقال‏:‏ قل كما قالت الأنبياء‏:‏ يا رب، يا رب، يا كريم‏.‏وكره أيضا أن يقول‏:‏ يا حنان يا منان‏.‏فإنه ليس بمأثور عنه ‏.‏

فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء، إذ لم يكن مشروعاً عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبياً كان أو غيره، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق، لا نبى ولا غيره، بل قال عمر‏:‏ اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا‏.‏ فيسقون ‏.‏

وكذلك ثبت فى صحيح مسلم عن ابن عمر وأنس وغيرهما أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم واستسقائه، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان فى حياته صلى الله عليه وسلم سأل اللّه تعالى بمخلوق /لا بد ولا بغيره، لا فى الاستسقاء ولا غيره، وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء اللّه تعالى، فلو كان السؤال به معروفاً عند الصحابة لقالوا لعمر‏:‏ إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس،فلم نعدل عن الأمر المشروع الذى كنا نفعله فى حياته وهو التوسل بأفضل الخلق إلى أن نتوسل ببعض أقاربه ،وفى ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل، وسؤال اللّه تعالى بأضعـف السببين مع القدرة على أعلاهما ــ ونحن مضطرون غاية الاضطرار فى عام الرمادة الذى يضرب به المثل فى الجدب‏.‏

والذى فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بيزيد بن الأسود الجُرَشِى كما توسل عمر بالعباس، وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهم أنه يتوسل فى الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح، قالوا‏:‏ وإن كانوا من أقارب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، اقتداء بعمر، ولم يقل أحد من أهل العلم‏:‏ إنه يسأل اللّه تعالى فى ذلك لا بنبى ولا بغير نبى ‏.‏

وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين ــ غير مالك ــ كالشافعى وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذى فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى ‏.‏

/والقاضى عياض لم يذكرها فى كتابه فى باب زيارة قبره، بل ذكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها فى سياق أن حرمة النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم، كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره وذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه‏.‏ وذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختيانى فقال‏:‏ ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه ‏.‏ قال‏:‏ وحج حجتين، فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبى صلى الله عليه وسلم كتبت عنه‏.‏

وقال مصعب بن عبد اللّه‏:‏ كان مالك إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحنى، حتى يصعب ذلك على جلسائه‏.‏ فقيل له يوماً فى ذلك، فقال‏:‏ لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المُنْكَدِر ــ وكان سيد القراء ــ لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكى حتى نرحمه‏.‏ ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ــ وكان كثير الدعابة والتبسم ــ فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة‏.‏ ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال‏:‏ إما مصلياً، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن‏.‏ ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون اللّه / ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبى صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه فى فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولقد كنت آتى عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى فى عينيه دموع‏.‏ ولقد رأيت الزهرى ــ وكان لَمِنْ أهنأ الناس وأقربهم ــ فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته‏.‏ ولقد كنت آتى صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه ‏.‏

 فهذا كله نقله القاضى عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة، ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا‏:‏ حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات، قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن على بن فِهْر، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبى إسرائيل، حدثنا ابن حميد قال‏:‏ ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك‏:‏ يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك فى هذا المسجد، فإن الله أدب قوماً فقال‏:‏ ‏{‏ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ‏}‏ الآية ‏[‏ الحجرات‏:‏ 2 ‏]‏، ومدح قوماً فقال‏:‏ ‏{‏ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 3 ‏]‏، وذم قوماً فقال‏:‏ ‏{‏ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ ‏}‏ الآية ‏[‏ الحجرات‏:‏ 4 ‏]‏، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً‏.‏ فاستكان لها أبو جعفر، فقال‏:‏ يا أبا عبد الله، أستقْبِلُ القبلة وأدعوا ‏؟‏ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ‏؟‏ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ‏}‏‏[‏النساء‏:‏64‏]‏‏.‏ قلت وهذه الحكـاية منقطعة؛ فإن محمد بـن حـميد الـرازى لم يَدرك مالكا، لاسـيما فى زمن أبـى جعفـر المنصـور، فإن أبـا جعفـر توفى بمكـة سـنة ثمـان وخمسـين ومـائة، وتوفى مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفى محمد بن حميد الرازى سنة ثمان وأربعين ومائتين، ولم يخرج من بلده حين رحل فى طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذبه أبو زُرْعَة، وابن وارة، وقال صالح بن محمد الأسدى‏:‏ ما رأيت أحداً أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه‏.‏ وقال يعقوب بن شيبة‏:‏ كثير المناكير‏.‏ وقال النسائى‏:‏ ليس بثقة‏.‏ وقال ابن حبان‏:‏ ينفرد عن الثقات بالمقلوبات‏.‏ وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفى سنة اثنتين وأربعين ومائتين‏.‏ وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمى توفى سنة تسع وخمسين ومائتين‏.‏ وفى الإسناد أيضاً من لا تعرف حاله‏.‏

وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، / ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته‏؟‏‏!‏ هذا إذا ثبت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له فى مسألة فى الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم، ومروان بن محمد الطاطرى ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث ‏؟‏

مع أن قوله‏:‏ ‏(‏وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ــ عليه السلام ــ إلى اللّه يوم القيامة‏"‏ إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، وهذا حق، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين تأتى الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائى يوم القيامة ولا فخر‏)‏ ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه ‏:‏

أحدها‏:‏ قوله‏:‏‏(‏أستقبلُ القبلة وأدعُو، أم أستقبلُ رسول اللّه وأدعُو ‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏‏"‏ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم‏)‏‏.‏ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين،أن الداعى إذا سلم على النبى صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعوا لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو فى مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه،بل إنما يستقبل / القبر عند السلام على النبى صلى الله عليه وسلم والدعاء له‏.‏ هذا قول أكثر العلماء كمالك فى إحدى الروايتين والشافعى وأحمد وغيرهم ‏.‏

وعند أصحاب أبى حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضًا‏.‏

ثم منهم من قال‏:‏ يجعل الحجرة على يساره ــ وقد رواه ابن وهب عن مالك ــ ويسلم عليه‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، وهذا هو المشهور عندهم، ومع هذا فَكَرِهَ مالك أن يطيل القيام عند القبر لذلك‏.‏ قال القاضى عياض فى المبسوط عن مالك قال‏:‏ ‏(‏لا أرى أن يقف عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضى‏)‏ قال‏:‏ وقال نافع‏:‏ كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجىء إلى القبر فيقول‏:‏ السلام على النبى صلى الله عليه وسلم، السلام على أبى بكر، السلام على أبى‏.‏ ثم ينصرف‏.‏ ورؤى واضعا يده على مقعد النبى صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه‏.‏ قال‏:‏ وعن ابن أبى قُسَيْط والَقَعْنَبِى كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد جسوا برمانة المنبر التى تلقاء القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون‏.‏ قال‏:‏ وفى الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثى أنه كان ــ يعنى ابن عمر ــ يقف على قبر النبى صلى الله عليه وسلم فيصلى على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أبى بكر وعمر، وعند ابن القاسم والقعنبى‏:‏ ويدعو لأبى بكر وعمر‏.‏ قال مالك فى رواية ابن وهب‏:‏ يقول‏:‏ السـلام عليـك أيهـا النبى ورحمـة اللّه وبركاته‏.‏ وقال فى المبسـوط‏:‏ ويسلم على أبى بكر وعمر‏.‏

/ قال أبو الوليد الباجى‏:‏ وعندى أن يدعو للنبى صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبى بكر وعمر بلفظ السلام لما فى حديث ابن عمر من الخلاف‏.‏ وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور فى رواية ابن وهب، قال مالك فى رواية ابن وهب‏:‏ إذا سلم على النبى صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر‏.‏ فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه ــ كما تقدم تفسيره‏.‏

وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب فى الواضحة وغيره قال‏:‏ وقال مالك فى المبسوطة‏:‏ وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء‏.‏ وقال فيه أيضا‏:‏ ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبى صلى الله عليه وسلم فيصلى عليه ويدعو له ولأبى بكر وعمر‏.‏ قيل له‏:‏ فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك فى اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا فى الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة‏.‏ فقال مالك‏:‏ لم يبلغنى هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها، أو دخلوا أتو القبر فسلموا، قال‏:‏ ولذلك رأى ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏

/قال أبو الوليد الباجى‏:‏ ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم‏.‏

قال‏:‏ وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب اللّه علـى قـوم اتخـذوا قبـور أنبيائهم مسـاجد‏)‏ قال‏:‏ وقال النبى صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا تـجعلوا قبـرى عيدًا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ومن كتاب أحمد بن شعبة فيمن وقف بالقبر لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا، وفى ‏[‏العتبية‏]‏ يعنى عن مالك‏:‏ يبدأ بالركوع قبل السلام فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبى صلى الله عليه وسلم حيث العمود المخلق، وأما فى الفريضة فالتقدم إلى الصفوف‏.‏ قال‏:‏ والتنفل فيه للغرباء أحب إلى من التنفل فى البيوت‏.‏

فهذا ــ قول مالك وأصحابه وما نقلوه عن الصحابة ــ يبين أنهم لم يقصدوا القبر إلا للسلام على النبى صلى الله عليه وسلم والدعاء له‏.‏ وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه فإنما يدعو فى مسجده مستقبل القبلة، كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبى صلى الله عليه وسلم، فكيف بدعائه لنفسه‏.‏

/وأما دعاء الرسول وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته، فهذا لم يفعله أحد من السلف، ومعلوم أنه لوكان قصد الدعاء عند القبر مشروعاً لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته ‏؟‏

فدل ذلك على أن ما فى الحكاية المنقطعة من قوله‏:‏ ‏[‏استقبله واستشفع به‏]‏ كذب على مالك، مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التى يفعلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء؛ إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه، فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به يقول له‏:‏ يا رسول الله، اشفع لى أو ادع لى، أو يشتكى إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكى إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة، ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يسلمون عليه، إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويُبَلَّغُ سلام البعيد ‏.‏

وقد احتج أحمد وغيره بالحديث الذى رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصرى‏:‏ حدثنا أبو صخر، عن يزيد بن قُسَيط، عن أبى هريرة ــ رضى الله عنه ــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من أحد يسلم علىّ إلا رد الله علىّ روحى حتى أرد عليه السلام‏)‏‏.‏ وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمة فى السلام عليه عند قبره صلوات الله / وسلامه عليه، فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة لا يعتمد على شىء منها فى الدين‏.‏ ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شىئاً منها، وإنما يرويها من يروى الضعاف كالدارقطنى والبزار وغيرهما ‏.‏

وأجود حديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمرى ــ وهو ضعيف والكذب ظاهر عليه ــ مثل قوله‏:‏ ‏(‏من زارنى بعد مماتى فكأنما زارنى فى حياتى‏)‏، فإن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره فى حياته وكان مؤمناً به كان من أصحابه، لا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏‏(‏لاتسبوا أصحابى، فوالذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه‏)‏ أخرجاه فى الصحيحين‏.‏

والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين ‏؟‏ بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه ‏.‏